فصل: كتاب الشهادات الرابع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة شهادة الذي لا يؤدي زكاة ما له:

وسئل سحنون عن الذي لا يؤدي زكاة ما له، هل يكون ذلك جرحة يطرح بها علمه؟ فقال: نعم، لا شك فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا شك فيه؛ لأن الله قد قرن الصلاة بالزكاة في غير ما آية من كتابه، وقال أبو بكر الصديق: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فمن لم يؤد زكاة ماله فهو فاسد ساقط الإمامة والشهادة. وهذا إذا أقر على نفسه أنه لا يؤدي زكاة ماله، وأما إذا لم يقر على نفسه بذلك فشهادته جائزة؛ لأن ذلك من السرائر، وعسى إن لم يؤدها ظاهرا خوفا من السلطان أن يؤديها سرا، وهو نص قول ابن دينار، وابن القاسم من رواية عيسى عنه في المدنية، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد عند القاضي في حق والشاهد غير عدل:

وسئل سحنون عن رجل شهد عند القاضي في حق، والشاهد غير عدل، هل يجوز لي أن أجرحه وأنا أعلم أنه شهد علي، وأنا شاهد على ذلك الحق، وأنا أعلم أنه غير عدل؟ فقال: لا يجوز لك أن تجرحه، فكيف يجوز لك أن تجرحه، وأنت ترى حقا قد وقف على الهلاك، إن جرح الشاهد هلك المال، وفي هذا آثار.
قال محمد بن رشد: هذا ما مضى في سماع سحنون، وهو أصح مما تقدم في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، وفي أول رسم من سماع عيسى، وقد مضى القول على ذلك، فلا معنى لإعادته، وقال سحنون: إذا أخبر الشاهد بالدين رجلان أو رجل وامرأتان أنه قضاه، فلا يشهد، ووقف إذا لم يخبره إلا رجل واحد، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة من ضرب في الحد:

ابن وهب، عن معاوية بن صالح: أن العلاء بن الحارث حدثه عن مكحول أنه قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تجوز شهادة ستة: مضروب في حد، ومجرب عليه شهادة زور، والخائن، والخائنة، والقانع، وذو الغمر» والغمر الغل.
قال محمد بن رشد: ليس في قوله في هذا الحديث: «لا تجوز شهادة ستة» دليل على أنه تجوز شهادة غيرهم، والمعنى في ذلك أنه خرج على سؤال سائل سأل عن هذه الستة فقال: إنه لا تجوز شهادتهم، فسماهم ولم يحصرهم بعدد، وعددهم الراوي، وأخبر بعدد من سمع منه أنه لا تجوز شهادته، وإنما لم تجز شهادة من ضرب في الحد، وإن كانت الحدود كفارات لأهلها على ما جاء في الصحيح من الآثار؛ لأن الحد إنما يرفع الإثم، ويبقى عليه حكم الفسق، فإن تاب وظهرت توبته قبلت شهادته باتفاق، إلا أن يكون حدا في قذف، فقد قيل: إن شهادته لا تجوز وإن تاب؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، وهو مذهب أهل العراق، والصحيح أنها جائزة إذا تاب، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، وصفة توبته عند مالك أن يظهر صلاح حاله أو الزيادة في صلاحها، وعند غيره أن يكذب نفسه، ويقر عليها أنه شهد بالزور، وأما من جربت عليه شهادة زور، فلا تجوز شهادته، وإن تاب، وقيل: إنها تجوز إن تاب، وقيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، والمعنى في ذلك أنه إن أتى تائبا، فأخبر أنه شهد بزور قبلت توبته، وإن عثر عليه أنه شهد بزور لم تقبل توبته، وإن تاب، وهو الصحيح إن شاء الله، وأما الخائن والخائنة فلا اختلاف في أن شهادتهما غير جائزة؛ لأن الخيانة فسق تبطل به الشهادة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية.
وقال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من علامات المنافق: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر» الحديث، فمن خان أمانته لن تقبل شهادته، وأما القانع فهو السائل، وشهادته لا تجوز إذا كان يتكفف الناس، ويسأل في عامتهم، إلا الشيء اليسير، وأما إذا لم يسأل في العامة، وإنما سأل سؤالا خاصا، فقد مضى من القول فيه في رسم الأقضية، من سماع يحيى ما فيه كفاية، وأما ذو الغمر فهو العدو، ولا اختلاف في أن شهادته لا تجوز على عدوه إذا كانت عداوته لغير الله على ما مضى فوق هذا، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة ذي الظنة والحنة:

ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن الحكم بن مسلم السالمي، عن الأعرج، عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه: «قضى ألا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة».
قال محمد بن رشد: ذو الظنة هو ذو التهمة، والمتهم في شهادته لا تجوز باتفاق، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، ولا جار إلى نفسه» والحنة هي العداوة. وقد مضى القول فيها، وفي بعض الروايات الحنة من الحقوق، وهو تصحيف، والله أعلم.

.مسألة الموقوف على الحد هل تقبل شهادته:

ابن وهب، عن يحيى بن أبي أيوب، عن المثنى بن الصباح، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا موقوف على حد».
قال الإمام القاضي: الموقوف على الحد هو الذي ثبت عليه ما يوجب أن يحد من أجله من زنا أو قذف أو شرب خمر أو ما أشبه ذلك، ولا اختلاف في أن شهادته لا تجوز، وإن تاب؛ لأن توبته لا تسقط عنه الحد، فإذا حد قبلت شهادته إن تاب، وقد مضى هذا قبل هذا، وقد مضى القول في الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه، والله الموفق.

.مسألة شهادة الأخ لأخيه في النكاح:

وقال سحنون: لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النكاح، إذا كانت الشهادة على أشراف قوم هم أشرف منهم؛ لأنه يتهم إنما يريد أن يشرف نفسه بتزويج أخيه إليهم، فهو متهم في هذه الشهادة.
قال الإمام القاضي: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى، في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة خاصم في أرض فأتى بالبينة على صاحبه فشهد له شاهد شهادة عليه فيها مضرة:

وسئل عن رجل خاصم في أرض أو دار، فأتى بالبينة على صاحبه، فشهد له شاهد شهادة عليه فيها مضرة، وعلى رجل آخر غائب عنهم في البلد، أو غير البلد الذي اختصما فيه، وليس بين الغائب والحاضر الذي شهدت عليه البينة شرك بمورث في الأمر الذي شهدوا فيه، فأتى الغائب فأخبره الحاكم بما شهدت عليه البينة، فيقول الغائب: لم أحضر شهادتهم، فمن البينة التي شهدت له علي، وأنا في البلدان غائب عنهم، أردهم حتى يشهدوا بحضرتي، فإن لي في ردهم منفعة، قال: إذا كان المشهود عليه حاضرا في القرية التي فيها المنازعة أو قريبا منها، فإنه يؤمر بإحضاره لتشهد البينة عليه، وأما الغائب البعيد الغيبة، فلا أرى ذلك، فإن قصد الحاكم في أن يأمر بإحضار الحاضر أو القريب الغيبة، ثم أتى الخصم فسأل إعادة البينة، فإني أرى أن يعيدها إن قدر على ذلك، وإن لم يقدر على ذلك لمغيب البينة، فقد فات ذلك، وصارت حاله إلى حال الغائب البعيد الغيبة، فليدفع شهادتهم بما يقدر عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المشهود عليه إن كان حاضرا في القرية التي فيها المنازعة أو قريبا منها، فإنه يؤمر بإحضاره لتشهد البينة عليه استحسان، والقياس ما في كتاب الأقضية من المدونة: أن البينة لا تعاد، ويعلمه الإمام بهم، وهذا إذا كان المشهود عليه مشهور العين، وأما إذا لم يكن مشهور العين، فلابد من إعادة الشهادة على عينه إذا أنكر في القريب والبعيد، وهو قول ابن الماجشون وغيره: إن المشهود عليه إذا كان مشهور العين لم يحتج إلى الشهادة على عينه، وبالله التوفيق.

.مسألة النكاح أيجوز للرجل أن يشهد عليه بالسماع:

وسئل عن النكاح أيجوز للرجل أن يشهد عليه بالسماع كما يشهد على الموت؟ قال: أما جل أصحابنا، فإنهم يقولون في النكاح إذا اشتهر الخبر في النكاح أن فلانا تزوج فلانة، وسمع الدفاف، وكثر به القول أن فلانا تزوج فلانة، فإنه يجوز للرجل أن يشهد أن فلانة هي امرأة فلان، وكذلك في الموت يسمع النياحة، ويشهد الجنازة أو لا يشهد، إلا أنه يكثر به القول من الناس: إنا شهدنا جنازة فلان، فالشهادة فيه جائزة أن فلانا مات، وإن لم يحضر الموت، وكذلك النسب يسمع الرجل الناس يقولون فلانا هو ابن فلان، ويكثر بذلك القول أنه يشهد على نسبه، وكذلك القاضي يتولى القضاء ولا يحضره حين ولي إلا بما سمع من الناس، ورآه يقضي بين الناس، فإنه يشهد أنه كان قاضيا، فهذه الأربعة وجوه تجوز فيها الشهادة على السماع.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن هذه الأربعة الأشياء تجوز الشهادة فيها على القطع من جهة السماع إذا انتشر ذلك، واستفاض وكثر به القول حتى وقع العلم به للشاهد من جهة السماع، وكذلك ما عدا هذه الأربعة الأشياء؛ لأن الأخبار المتواترة يقع العلم بها ضرورة فيما طريقه العلم، وغلبة الظن فيما طريقه غلبة الظن، كالتعديل والترشيد وشبه ذلك.
وفي قوله: أما جل أصحابنا إلى آخر قوله دليل على أن منهم من لا يقول بذلك، ولا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف بينهم هل تجوز في هذه الأربعة الأشياء، وفيما سواها الشهادة على السماع دون القطع بأن يقولوا: سمعنا سماعا فاشيا من أهل العدل وغيرهم كذا وكذا، ويحكم بذلك، أو لا يجوز ولا يحكم به، فالذي عناه سحنون والله أعلم بقوله في هذه الرواية أما جل أصحابنا، فإنهم يقولون: إن الشهادة في هذه الأربعة الأشياء تجوز على القطع من ناحية السماع، ولا تجوز على السماع دون القطع؛ إذ من شأنها أن تستفيض حتى تصح الشهادة فيها على القطع، وإن غير الجل يجيزون فيها أعني في هذه الأربعة الأشياء شهادة السماع بدون القطع، كما يجيزون ذلك في غيرها، وقد قيل: السماع دون القطع لا يجوز إلا في هذه الأربعة أشياء، فيتحصل فيما تجوز فيه الشهادة على السماع دون القطع أربعة أقوال؛ أحدها: أن الشهادة على السماع دون القطع لا تجوز لا في هذه الأربعة الأشياء، ولا فيما سواها، وهو مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال في المدونة: إن شهادة السماع لا يثبت بها النسب ولا الولاء ويقضي له بالمال دون ثبات النسب والولاء، وكذلك لم يرها عامة في الحبس إلا مع القطع على المعرفة بأنها تحترم بحرمة الأحباس، ولا في الشراء المتقادم إلا مع الحيازة. والثاني: أنها تجوز في هذه الأربعة أشياء وفيما سواها، وهو دليل ما حكاه ابن حبيب في الواضحة من إجازة الشهادة على السماع في الملك دون الحيازة، وما تأولناه على سحنون فيما حكاه عن غير الجل من أصحاب مالك. والثالث: أن شهادة السماع تجوز فيما عدا هذه الأربعة أشياء، ولا تجوز في هذه الأربعة أشياء، وهو الذي تأولناه من حكاية سحنون عن جل أصحاب مالك في هذه الرواية. والرابع: أن شهادة السماع تجوز في هذه الأربعة أشياء، ولا تجوز فيما عداها عكس القول الثالث.
وقد مضى في آخر رسم الأقضية، من سماع يحيى الاختلاف في إجازة شهادة السماع في النكاح، وسيأتي في سماع أصبغ القول في إجازتها في الضرر بين الزوجين، وبالله التوفيق.

.مسألة يلزم الشاهد أن يأتي لأداء شهادته:

قيل لسحنون: أرأيت الشاهدين يأتيهما صاحب الشهادة أن يشهدا له فيقولا له: الهبوط إلى الحاضرة يشق علينا، إلا أن تنفق علينا وتعطينا دواب نهبط عليها؟ قال: أما إذا كان مثل الساحل منا، فأرى للقاضي أن يكتب إلى رجل يشهد عنده الشهود، ويكتب شهادتهم، ولا يعني الشهود إليه بالقدوم، قال: ولا ترى هذه ولاية للمشهود عنده؟ قال: لا يستغني القاضي عن مثل هذا، قيل له: وكم بعد الساحل من هاهنا؟ فقال: ستون ميلا، فقال له: فإن كان الشهود على بريد أو بريدين فقال: إذا كان الشهود يجدون الدواب والنفقة، فلا أرى لصاحب الحق أن يعطيهم دواب ولا نفقة، فإن فعلوا فشهادتهم ساقطة؛ لأنهم قد ارتشوا على شهادتهم، قيل له: فلو كانوا لا يجدون النفقة ولا الدواب؟ فقال: لا أرى بأسا أن يكري لهم دواب، وينفق عليهم.
قال الإمام القاضي: الأصل في هذه المسألة قول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]؛ لأن معناه عند أهل العلم فيما قرب دون ما بعد، وهذا مما يخصص فيه عموم القرآن بالإجماع، فإذا كان الشاهد بحيث يلزمه الإتيان لأداء شهادته، فواجب عليه أن يركب دابته، ويأكل طعامه، فإن لم يفعل وركب دابة المشهود له، وأكل طعامه سقطت شهادته؛ لأنه قد ارتشى عليها؛ إذ قد أخذ من المشهود له ما يلزمه القيام به من ماله، وخفف ذلك ابن حبيب إذا كان ذلك قريبا وكان أمرا خفيفا، وينبغي أن يحمل على التفسير لقول سحنون، فالقريب الذي يلزم الشاهد أن يأتي لأداء شهادته ينقسم على هذا التأويل قسمين: قريب جدا تقل فيه النفقة ومؤنة الركوب، فهذا لا يضر الشاهد ركوب دابة المشهود له، وإن كانت له دابة، ولا أكل طعامه، وغير قريب جدا تكثر فيه النفقة ومؤنة الركوب فهذا تبطل فيه شهادة الشاهد إن ركب دابة المشهود له، وله دابة أو أكل طعامه عند سحنون، وقد قيل: إنها لا تبطل شهادته بذلك، وهو ظاهر قول ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وأصبغ في الشاهد يشهد في الأرض النابتة، فيحتاج إلى تعينها بالحيازة لها، أنه لا بأس أن يركب دابة المشهود له، ويأكل طعامه، وهو الأظهر؛ إذ ليس ما يصير إلى الشاهد من هذا مالا يتموله. فإن قيل: إنه يوفر بأكل مال المشهود له نفقته على نفسه، قيل له: هذا يسير، لا يتهم الشاهد في مثله، وأما إن كان الشاهد لا يقدر على النفقة، ولا على اكتراء دابة، وهو ممن يشق عليه الإتيان راجلا، فلا تبطل شهادته إن أنفق عليه المشهود له، أو اكترى له دابة؛ إذ لم يسقط بذلك عن نفسه ما هو واجب عليه أن يفعله، وقد قيل: إنه تبطل شهادته بذلك إذا كان مبرزا في العدالة، وهو قول ابن كنانة.
وأما إذا كان الشاهد من البعد بحيث لا يلزمه الإتيان لأداء شهادته، وليس للقاضي من يشهد عنده بموضعه الذي هو به، فلا يضره أكل طعام المشهود له، وإن كان له مال ولا ركوب دابته، وإن كانت له دابة، وكذلك إذا احتجب السلطان عن الشاهد لم يضره أن ينفق عليه المشهود له ما أقام منتظرا له إذا لم يجد من يشهد على شهادته وينصرف، وقد قيل: إن شهادتهم تبطل بذلك؛ لأنهم يوفرون على أنفسهم النفقة، وهو الأظهر، فانظر على هذا أبدا إذا أنفق المشهود على الشاهد في موضع لا يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه جاز، وإن أنفق عليه في موضع يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه، فلا يجوز ذلك إلا فيما يركب الشاهد إذا لم تكن له دابة، ولم يقدر على المشي، فلا اختلاف في أنه يجوز للشاهد أن يركب دابة المشهود له، إذا لم تكن له دابة، وشق عليه المشي جملة من غير تفصيل بين قريب ولا بعيد، ولا موسر ولا معسر، وإنما يفترق ذلك حسبما ذكرناه في النفقة، وفي الركوب إذا كانت له دابة، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة المختفي:

وسئل سحنون عن شهادة المختفي فقال: أخبرنا ابن وهب، عن أشهل بن حاتم: أن شريحا والشعبي كانا لا يجيزان شهادة المختفي الذي يدخل بيت رجل.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم باع شاة، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة يتجر في البادية فهلك فيها وكان معه غلام له فادعى الغلام أن سيده قد دبره:

قال سحنون: عن ابن القاسم، عن مالك، عن رجل كان يتجر في البادية فهلك فيها، وكان معه غلام له، فادعى الغلام أن سيده قد دبره فأقام شهودا من أهل شهادته على ذلك، فقال مالك: إذا كانوا عدولا جازت شهادتهم له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة ترك عبدا فشهد أحد ولديه بعتق نصف العبد وشهد الآخر بعتقه كله:

وقال في رجلين هلك أبوهما، وترك عبدا، فشهد أحدهما أن أباه أعتق نصفه، وشهد الآخر أنه أعتق كله، فقال: قد اجتمعا على النصف، فهو حر، ويعتق على الذي أقر بالجميع ما يصير له من حصته منه؛ لأنه لا يكون ذلك ضررا على صاحبه؛ لأنه قد أفسد أولا، وليس يزيد ما أعتق منه أيضا فسادا، بل هو حينئذ يزيد خيرا فيعتق من العبد ثلاثة أرباعه، ويكون الربع رقا للذي شهد بعتق نصفه، ولا يعتق عليه؛ لأنه لم يحدث هو عتقا إنما أحدثه أبوه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.كتاب الشهادات الرابع:

.مسألة شهدا لرجل بألف درهم قال أحدهما حل له الحق وقال الآخر بل إلى سنة:

قيل لسحنون: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل بألف درهم، وقال أحدهما: قد حل له الحق، وقال الآخر: بل إلى سنة؟ فقال: إن شاء صاحب الحق أن يحلف مع شاهده الذي شهد له بحلولها، ويحق حقه فعل، وإن شاء كانت له إلى سنة، ولا يمين عليه، وليس هذا مثل الأول أن يقول المطلوب، فأنا أحلف مع الشاهد الذي يشهد علي بأنها إلى سنة، ويكون شاهدا لي بذلك؛ لأنه إنما شهد على الآخر، ولا يحلف في ذلك مع الشاهد الواحد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الشاهدين اجتمعا على أن الحق كان إلى سنة، فقال أحدهما: قد انقضت، وقال الآخر: لم تنقض بعد، فوجب أن يحلف الطالب مع شاهده الذي شهد له أنها قد انقضت؛ لأنه هو المدعي لانقضائها، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى، فلما أقام شاهدا على دعواه، كان من حقه أن يحلف مع شاهده، ولم يكن للمطلوب أن يحلف مع شاهده إلا أن ينكل الطالب عن اليمين، فيحلف هو ويكون المال إلى الأجل، ولو اختلف الشاهدان في الأجل، فقال أحدهما: كان إلى ستة أشهر فقد حل، وقال الآخر: كان إلى سنة، فلم يحل؛ لوجب أن يحلف المطلوب مع شاهده الذي شهد له بأن الحق كان إلى سنة؛ لأن شاهده زاد في شهادته على ما شهد به، شاهد الطالب بدليل أنه لو أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه؛ لوجب أن تكون بينة المطلوب أعمل؛ لأنها زادت، وهذا على المشهور من قول ابن القاسم في أن البينتين إذا اختلفتا في القلة والكثرة كانت البينة التي زادت أعمل، وقد قيل: إن ذلك تكاذب، وينظر إلى الأعدل منهما، وقد فرق بين أن تكون الزيادة في اللفظ، مثل أن تشهد إحدى البينتين بمائة، والثانية بمائة وخمسين، أو في المعنى، واللفظ مختلف، مثل أن تشهد إحداهما بمائة، والثانية بتسعين. وقوله: وليس هذا مثل الأول يريد مسألة جرت بينهما في المجلس لم تذكر، وهي المسألة التي بعد هذه، أو ما كان في معناها، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد له أحدهما بألف وشهد الآخر بخمسمائة:

قلت: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل بألف درهم، وشهد أحدهما أنه قضى الطالب منهما خمسمائة درهم، وأنكر الطالب القبض؟ فقال: لا أرى الطالب يستحق بشهادتهما الألف؛ لأن أحدهما أدخل عليه في شهادته ما نقصت خمسمائة، فكأنه في هذا الموضع إنما شهد له أحدهما بألف، وشهد الآخر بخمسمائة، فإن شاء الطالب أخذ الخمسمائة بلا يمين فذلك له، وإن أحب أن يحلف ويستحق ألفا بالشاهد الذي شهد له بالألف، فإذا حلف استحقها إلا أن يحلف المطلوب مع الشاهد له بالقضاء منها خمسمائة أنه قضاه خمسمائة، فإن حلف لم يجب للطالب إلا خمسمائة، قال: وإن أبى المطلوب أن يحلف لم يكن على الطالب يمين؛ لأنه قد حلفه مرة على الذي يريد المطلوب أن يحلفه عليه الآن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مشكلة؛ إذ لا يخلو الأمر فيها من وجهين؛ أحدهما: أن يكون المطلوب مكذبا للشاهدين جميعا، منكرا لجميع الحق. والثاني: أن يكون مصدقا للشاهدين جميعا، مدعيا ما شهد له به أحدهما، من أنه قبض الطالب منه خمسمائة، فإن كان مكذبا للشاهدين جميعا، منكرا لجميع ذلك، كان وجه الحكم في ذلك أن يوقف الطالب، فإن كذب الشاهد الذي شهد بأن المطلوب قضاه خمسمائة، وقال: إنه شهد بزور، بطلت شهادته له بإقراره أنه شهد بزور، ولم يكن له أن يأخذ الخمسمائة حتى يحلف عليها مع الشاهد الآخر، وإن قال: إنه شبه عليه، ولم يتعمد الزور لم تبطل شهادته له، وأخذ الخمسمائة بلا يمين؛ لاجتماع الشاهدين له عليها، وإن شاء أخذ الألف بيمينه مع الشاهد الذي شهد له بها، ولم يكن للمطلوب أن يحلف مع الشاهد الذي شهد له بالقضاء؛ لأنه مكذب له، وإن صدقه وقال: إنه شهد بحق، أخذ الخمسمائة بلا يمين، ولم يكن له إلا ذلك.
وإن كان المطلوب مصدقا للشاهدين جميعا، مدعيا لما شهد له أحدهما من أنه قضى الطالب منها خمسمائة، كان وجه الحكم في ذلك أن يحلف مع شاهده الذي شهد له أنه قضاه خمسمائة، ويبرأ منها، ويؤدي إلى الطالب الخمسمائة الباقية، فإن نكل عن اليمين حلف الطالب أنه ما قضاه شيئا، وأخذ جميع الألف، فالمعنى في المسألة أنه أجاب فيها أولا على أن المطلوب مكذب للشاهدين جميعا، منكر لجميع الحق، وعلى أن الطالب يدعي الألف، وينكر الاقتضاء الذي شهد به أحد الشاهدين، ولا يدعي عليه تعمد الشهادة بالزور، فلذلك قال: إن الطالب مخير بين أن يأخذ الخمسمائة بلا يمين، أو الألف مع اليمين.
وقوله بعد ذلك: إلا أن يحلف المطلوب مع الشاهد له بالقضاء أنه قضاه خمسمائة إلى آخر قوله، معناه إن رجع بعد يمين الطالب على الألف إلى الإقرار بأصل الحق، وادعى ما شهد له أحد الشاهدين من القضاء؛ لأنه حينئذ يكون له ما ذكره من أن يحلف مع الشاهد له بالقضاء أنه قضاه خمسمائة، فإن حلف بطلت عنه، ولم يجب للطالب إلا خمسمائة، وإن نكل عن اليمين غرم الألف دون أن يحلف الطالب، وقد تقدمت يمينه، فهذا معنى المسألة عندي؛ إذ لو كان أولا مقرا بأصل الحق، مدعيا لقضاء الخمسمائة لما مكن الطالب من أن يحلف على الألف، ويستحقها إلا بعد أن ينكل المطلوب عن اليمين مع الشاهد الذي يشهد له بقضاء الخمسمائة، ولو كان أحدا متماديا على إنكاره أولا لأصل الحق وتكذيب الشاهدين؛ لما مكن من اليمين مع الشاهد بأنه قضاه خمسمائة لتكذيبه إياه، وهذا كله بين، والحمد لله.

.مسألة هل تجوز شهادة بعضهم لبعض فيما تقاضى من الكراء:

قيل لسحنون: أرأيت قوما تكاروا سفينة، وقدموا الكراء إلى صاحب المركب، فعطب المركب قبل البلاغ، فأرادوا الرجوع على صاحب المركب، فأنكرهم أنه ما تقاضى منهم شيئا، هل تجوز شهادة بعضهم لبعض فيما تقاضى من الكراء؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: أجاز شهادة بعضهم لبعض على صاحب المركب، وإن كان كل واحد منهم قد شهد لمن شهد له، وفي ذلك اختلاف: قيل: إن شهادة بعضهم لبعض جائزة، وإن كانت في مجلس واحد، وهو ظاهر قول سحنون هذا، وقيل: إنها لا تجوز، وإن كانت في مجالس شتى؛ إذ ليس موضع ضرورة، وكانوا يجدون من يشهد من سواهم إذا أرادوا أن ينقدوا الكراء، وإلى هذا رجع سحنون فيما حكى محمد عنه، وقيل: إنها إن كانت في مجلس واحد لم تجز، وإن كانت في مجالس شتى جازت، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وسواء تكاروا السفينة على أن لكل واحد موضعا بعينه، سماه منها بما سمى له من الكراء أو تكاروها منه جملة واحدة على الاشتراك فيها، والإشاعة إلا أن يشترط عليهم أن بعضهم حملاء عن بعض بما ينوبه من الكراء، فإن اشترط ذلك عليهم لم تجز شهادة بعضهم لبعض، فيما نقد من الكراء؛ لأنه يشهد لنفسه، ولا اختلاف في هذا؛ إذ ليس بموضع ضرورة، وقد مضى ذكر الاختلاف فيه في موضع الضرورة، في رسم الصبرة، من سماع يحيى، فتأمل ذلك هناك تجده فيه مستوفى، وبالله التوفيق.

.مسألة قال قتلني فلان فجاء المدعى عليه بالبينة أنه كان يوم ضرب ببلدة نائية:

وسئل عمن شهد له بدم على رجل أصابه عمدا، فجاء المشهود عليه بقوم يشهدون أن القاتل كان معهم يريد يوم قتل القتيل ببلدة نائية غير موضعه الذي قتل فيه، قال: وهذا مما وصفت لك في المسألة فوق هذا إذا حق الحق لأهله؛ فلا مخرج من شهادة الشهود إلا بجرحة، وقال أصبغ مثله، قيل: فرجل، قال: قتلني فلان فجاء المدعى عليه بالبينة أنه كان يوم ضرب هذا معهم ببلدة نائية غير موضعه الذي ضرب فيه، قال: يبرئه ذلك ويخرجه؛ لأنه خرج من حد الشهادة، وصار في حد الدعوى إلا أنها دعوى إن لم ترد حلف معها الولاة وقتلوه.
قال محمد بن رشد: أما الذي شهد له بدم عمد، فجاء المشهود عليه بشهود يشهدون أنه كان ذلك اليوم ببلد كذا ناء عن الموضع الذي قتل فيه، فالمشهور في المذهب ما قاله سحنون من أن الشهادة عامة على المشهود عليه بالدم لا يبطلها عنه شهادة من شهد أنه كان ذلك اليوم في غير ذلك البلد، وقد ذهب إسماعيل وغيره إلى أن الشهادة بذلك ساقطة، وهو قول محمد بن عبد الحكم، قال في آداب القضاة: الذي كنت أسمع فيما كنا نتناظر فيه مع أصحابنا أن شاهدين لو شهدا على رجل أنه أقر عندهم بعرفات يوم عرفات من هذا العام بمائة دينار لفلان، وشهد آخران أنه كان عندهم بمصر في ذلك اليوم بعينه، أن شهادة الذين شهدوا عليه بالمائة أحق وأولى، وقالوا: لأن هذين شهدا بحق، ولم يشهد الآخران بحق، ولست أعرف لهذا معنى، والذي أرى إن كان الشاهدان اللذان شهدا أنه كان بمصر في ذلك الوقت أعدل، ألا يكون له شيء، ألا ترى أن رجلين لو شهدا على رجل بحق أقر به عندهما في سنة مائتين، وشهد شهود عدول أعدل منهما أنه مات قبل ذلك بشهر أنها جرحة، ولو كانت في العدالة سواء لطرحتها، وكذلك لو شهدا أنه ولد بعد المائتين، ولكلا الوجهين وجه وحظ من النظر، وستأتي هذه المسألة في نوازل أصبغ، فنتكلم عليها إذا انتهينا إليها، إن شاء الله، وأما التدمية والشبهة التي توجب القسامة، فلا اختلاف في سقوطها بالشهادة للمدعى عليه، أو المتهم بالدم أنه كان في ذلك اليوم في غير ذلك البلد، وسيأتي هذا المعنى في سماع يحيى، من كتاب الديات، وبالله التوفيق.

.مسألة شهدا على معرفة خط رجلين في كتاب:

قيل: أرأيت رجلين شهدا على معرفة خط رجلين في كتاب؟ فقال: هي جائزة؛ لأنهما قد شهدا على كل واحد، قيل له: فهل يشهدان أيضا على وكالة في ذلك الحق لمن يخاصم به، وعلى وراثة يأخذها من له ذلك الكتاب الذي شهدا فيه على معرفة كتاب الرجلين؟ فقال: نعم؛ لأنهما في كل هذا شاهدان مبتديان ماضيان، لا ينالهما بشهادتهما شيء؛ لأنهما قد بلغا... تمام الشهادة وأفضل ما تؤخذ به الحقوق، ولأنهما اثنان، وبالاثنين تؤخذ الحقوق، وتمضي لأهلها.
قلت: فهل يعذلان شاهدا شهد في ذلك، ويشهدان هما على شهادة شاهد معه في ذلك الكتاب؟ قال: نعم، هما في ذلك على مثل حالهما في المسألة التي قبلها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، لا إشكال فيها؛ لأنهما شاهدان، فإذا جاز أن يشهدا للرجل في حقوق مختلفة كان أحرى أن تجوز شهادتهما في الحق الواحد في وجوه مختلفة، وبالله التوفيق، وليس ما أجازه من شهادة الرجلين على شهادة الشاهد، وتعديلهما للشاهد الآخر في ذلك الحق بخلاف لما قاله ابن القاسم في رسم شهد، من سماع عيسى، في الشاهدين يشهدان لرجل بحق، فيعدل أحدهما صاحبه؛ لأن الأمر يئول في ذلك إلى الحكم بشهادة المزكي وحده، وبالله التوفيق.